الأزمة التي رافقت معرض بيروت للكتاب العربي (ديسمبر 2012) والتي ضج بها الإعلام وفند أسبابها ومظاهرها وضاقت بها دور النشر- كما الكتّاب. هذه الأزمة لم تأتِ دفعة واحدة. فالمعرض، الذي أرسى، خلال عقود طويلة، مساحة صلبة من التبادل الثقافي في الداخل ومع الخارج، أخذ منذ سنوات في التراجع. ضعف إقبال الجمهور عليه كما على الأنشطة الثقافية التي تقام بمناسبته. ولولا "الصفة الاجتماعية" لهذا الإقبال لغدا المعرض شديد الوهن. أقصد بالصفة الاجتماعية، حفلات توقيع الكتب التي إلى جانب القراء العاديين يقبل عليها أصدقاء الكاتب وأقاربه. على أنه من غير المؤكد أن المردود القرائي الثقافي لهذه المناسبات يوازي النسخ الموقعة فيها. وخروج عدد كبير من زائري الأجنحة الأخرى بأيدِ فارغة مثال على ذلك؛ لا سيما التلامذة الذين تنظم لهم مدارسهم "زيارة المعرض"، فتأتي هذه غالبا أشبه "بفسحة للفرجة" منها بمناسبة ثقافية تعوّض عن مجافاتهم المطالعة خلال العام. وفي هذه المجافاة مدخل مفيد لوضع اليد على أهم أسباب الأزمة. فصغارنا الذين هم الفئة المستهدفة بالكتاب، إن في الوقت الحالي أم في المستقبل، لا يميلون للقراءة عموما وينفرون تحديداً من المطالعة باللغة العربية. وهذه مسؤولية تتقاسمها جهات عديدة معنية بالمسألة ليس أقلها شأناً وزارات التربية والثقافة والإعلام كما وتتحملها دور النشر نفسها ونوعية الكتب التي تنشر.
لطالما قيل إن "التلفزيون" والألعاب الالكترونية هي السبب في إحجام الصغار عن القراءة. وهذا سبب لا خلاف عليه لكنه غير حصري ولا يجوز أن يغدو"العلاقة" التي نضع عليها مسببات الأزمة وعجزنا عن التعاطي معها أو أيجاد الحلول. يدعونا تحدي الواقع للتفكير بوسائل من شأنها "ترشيد" العلاقة مع الشاشة وتدارك خطر الإنصراف عن طلب المعرفة الذكية بصورة عامة وطلبها عبر القراءة بشكل خاص. هناك عوامل "الجذب" وعوامل "الطرد" ذات الصلة بالمطالعة. فإذا ما كانت الشاشة تتمتع بجاذبيتها المعروفة، فأعداد المدمنين عليها وعلى الألعاب غير المجدية، ستزداد بلا هوادة إذا ما تضافرت عناصر "الطرد" من الجهة المقابلة. أي طرد القرائيين من الملعب قبل أن يصلوا إليه. فالمطالعة، وإن لم تعد حصرية لجهة البحث عن المعرفة والترفيه الجميل، إلا أنها ما تزال إحدى الوسائل الأولى لذلك. أكانت هذه المطالعة وَرقية أم رقمية. لذا فإن دخول الشاشات والبرامج الأجنبية والألعاب على خط التنافس مع الكتب ينبغي أن يحفزنا لابتكار أساليب واستحداث طرق لتمكين الصغار من المعرفة والترفيه عبر لغتهم الأم. ولا مانع من استخدام الشاشات نفسها لهذه الغاية.
من بيّنات مشكلة المطالعة باللغة العربية أن غالبية الطلاب يجاهرون بذلك. بل ويكشفون عن "كرههم" لحصص "العربي" في المدرسة. والملفت أن كثيراً من هؤلاء، هم لجهة خلفيتهم الثقافية، عرب بالمعنى التقليدي؛ أي أنهم لا يملكون (ولا ذووهم) لغة أخرى تمكنهم من اكتساب المعرفة بصوة قويمة أو ثرية؛ فيكونون والحال هذه قد خسروا "الإمكانية اللغوية" المكتوبة في حد ذاتها بغض النظر عن هويتها عربية كانت أم أنكليزية. المحظوظ من هؤلاء قد يسافر ويبني لغته "الجديدة" في بلد الاغتراب. غني عن الذكر أن المكتسبات اللغوية الأولى تشكل أرضية صلبة لتعلم أية لغة أخرى. لذا يكتفي غالبية هؤلاء بمكسب لغوي "يمشي الحال" والقلة منهم تصل إلى المصاف الذي يمكّنها من التبادل الثقافي الحقيقي مع مجتمعها الجديد، وعلى الأرجح تكون قد ذهبت إلى بلاد الاغتراب بثروة لغوية ما. هكذا تعيش الأكثرية في فقر "لغوي" لا سيما لجهة المطالعة والكتابة. من الواضح أن "الشفهية" والسماع هو ما يغلب على قدرات الأجيال الجديدة الذين إذا ما وجدوا أنفسهم أمام المكتوب انصرفوا عنه أو أصيبوا بالإحباط. وفيما ينبغي الاستفادة من الثروة الشفهية الهائلة التي تتدفق من وسائل الإعلام، يشير الواقع إلى أن هذه تنمو على حساب المكتوب والمقروء حتى وإن جاء هذا رقمياً.
في بحث مشكلات تعليم اللغة العربية، يوضع اللوم كثيراً على ازدواجية الفصحى والعامية. لهذه أيضاً صعوبات تستدعي المعالجة، على أنها ليست صعوبات كبرى؛ إذ يمكن لهذه الازدواجية أن تغدو مصدر ثراء لا عثرة تعلم. ولقد أثبتت وما زالت تثبت أنها كذلك منذ مطلع القرن الماضي. إن مقارنة بسيطة بين أساليب الكتابة في القرون الماضية وتلك التي سادت في القرن العشرين خير دليل على والتبسيط الجميل والثراء الأسلوبي الذي اكتسبته الفصحى من العامية دون الإخلال بسلامة التعبير والبنى أو بالجماليات والبلاغة. فالعامية ليست كما يتخيل البعض لغة غريبة. إنها توأم الفصحى. التوأم الشبيه لا طبق الأصل. هذا ليس زعما بل واقعا نستدل عليه من معطيات الفصحى نفسها. علينا أن ندرك بأن نطق الكلمات، و"الزوائد" التي تدخل على هذه في العامية، هو ما يشكل الاختلاف الأكبر بينها وبين الفصحى. على أن الصيغ اللغوية كما غالبية المفردات وأصولها ومشتقاتها تبقى هي ذاتها هنا وهناك. ناهيك عن التماثل في بنى الجمل والتعابير. لو قلت في الفصحى "إن فادي يذهب كل يوم أحد إلى السينما"، سأعتمد تلقائياً بنية الجملة ذاتها في العامية لأقول "فادي بيروح كل يوم أحد عالسينما" ولا أقول أبداً" الأحد السينما على فادي بيروح ".
هذا التماثل ينطبق على استخدام صيغ الأفعال هنا وهناك: في العامية أقول أنا فرحان كما في الفصحى فلا أستخدم صيغة فعلية مغايرة مثل "فرحون" أو "فرحين" وكذلك القول زعلان وعطشان الخ.. أليست صيغة الفاعل هي أيضا ذاتها في العامية والفصحى؟ مثل الدارس/الدارسة والشارب واللاعبة الخ.أليست صيغة المفعول به هي ذاتها أيضاً؟ أقول في العامية هذا أمر معلوم أو مفروغ منه ولا أقول "متفرغ"؛ وهذه ورقة مطبوعة "ولا أقول منطبعة" وأقول مشروب لا متشرب وإن استخدمت هذه الصيغة الأخيرة فإنما لأشير في العامية كما في الفصحى إلى معنى آخر على وزن متمكن الخ.
أزمنة الأفعال (الحاضر الماضي والمستقبل) هي أيضا ذاتها في العامية والفصحى: أقول "عم بدرس" أي في المضارع/الحاضر. و”بدي إدرس” في المستقبل. وعن الماضي كما في الفصحى أقول "درست" وفي الأمر أدرس/ادرسي الخ. لذا، لو قرأنا للصغير نصاً فصيحاً، شرط أن يكون ملائماً لسنه ولمكتسبه اللغوي، لفهم غالبية مفرداته بالقياس التلقائي مع مكتسبه "العامي".
من المؤكد أن توأمي اللغة هما أكثر تقارباً مما يعتقد البعض. وقد ازدادا قرباً وتماثلاً بتيسير لغة الصحافة والإعلام وانتشار "لغة وسيطة" واكتساب "العامة" والبسطاء وغير المتعلمين ثروة شفهية فصيحة تزداد ثراء يوما عن يوم. في التمهيد لإعداد منهاج تعليمي لفئة العمال "غير القرائيين"، كانت تدهشني قدراتهم اللغوية الشفهية؛ ولطالما تساءلت عما إذا كانوا بالفعل "أميين" لجهة القراءة والكتابة؟!
أين إذن تقع مشكلة الأجيال الجديدة مع اللغة الأم؟ لا سيما في انتقالهم من الشفهي إلى القراءة الطويلة أو الكتابة؟
لا ينصرف صغارنا عن القراءة بالعربية، فقط لانجذابهم إلى المرئي والمسموع أو إلى لغة أخرى. بل وفي المقام الأول، بسبب الفكرة التي كوّنوها عن "هذه اللغة" على مقاعد الدراسة. للانطباعات والتجارب الأولى أثر لا جدال فيه في الترغيب أو الترهيب. والصعوبات التي يواجهها الصغار في بدء تعلمهم العربية والمعاناة والخوف من الفشل هي منابع القطيعة التي ستترجم لاحقاً في الابتعاد عن المكتوب بها. والمشكلة لا تكمن في اللغة ذاتها، إذ ليست العربية أكثر صعوبة من غيرها. بل تكمن المشكلة في مناهج اللغة العربية وكتب "القراءة" وطرق تعليمها، ناهيك عن كتب القواعد!
كتب القراءة العربية المعتمدة في لبنان، الحديثة منها أو القديمة،الرسمية أم الخاصة، تعاني بدرجات متفاوتة من الآفات عينها. آفات تعمل على ضرب الصلة بين الدارسين ولغتهم كواسطة تثقيف وترفيه ذكي ومتعة. وأوضح أن اختيار لبنان "نموذجاً" لا يعني أن كتب القراءة في البلدان العربية الأخرى لا تعاني من مشكلات مثيلة أو مغايرة. ولعل كتب لبنان على علاتها تبقى أفضل من مثيلاتها في كثير من البلاد الناطقة بالضاد. آفات هذه تكاد تكون صورة لتلك، وأهمها اثنتان:
تتمثل الأولى منهما في غياب عنصر الجاذبية عن نصوص الكتب؛ والثانية في غياب الملاءمة اللغوية للفئات العمرية من جهة، وملاءمتها لخصائص "العربية" من جهة أخرى (التفاصيل تأتي أدناه). بالنسبة للمشكلة الأولى: ما زال الوعظ المباشر أو غير المباشر، والتلقين أو السرد الإنشائي الممل والعبارات الجاهزة التي مض عليها الزمن، هو السائد في كتب القراءة العربية. وكأن واضعي النصوص أنفسهم ضحايا تلك الأساليب البائدة، اضطرتهم الظروف لإعادة إنتاجها في العصر الحديث. كأنهم يؤدون واجباً إلزامياً للوفاء بعناوين مرسومة في "توصيف المنهاج" مثل، "حب المدرسة والوطن والوئام الأسري وواجب الطاعة والنظافة من الإيمان وحب الطبيعة" وغير ذلك. يؤدون واجباً أكثر بكثير مما يقومون بعمل خلاق، يجعل من هذه القيم السامية مادة إبداع تنعش نفس الدارس الصغير وتغريه للاقبال عليها. فالمفاهيم الأخلاقية، مهما سمت، لا تكفي لبناء العلاقة بين الدارسين والنصوص التي تتناولها؛ و"التربية" بالتلقين منذ القرون الماضية أثبتت عثراتها. والآن أكثر من أي وقت مضى وبالنظر إلى جاذبية الشاشات وتعدد مصادر اللهو وأنماطه، ينبغي التفكير بالملمح الإبداعي لنصوص الكتب. وإلا تغدو هذه أرضية فصام بين السامي من المعاني وبين وسائل "ثقيلة الظل" تتحدث عنها.
المشكلة الثانية: المستوى اللغوي للنصوص لا يلائم الفئات العمرية المتلقية.
في الكتب المدرسيةً نلاحظ إغفالاً لرسم المراحل اللغوية بشكل متدرج يلائم أعمار الدارسين. مراحل تعين ما يمكن تقديمه (قراءة، كتابة أو شفاهة) في هذه المرحلة أو تلك. لا تقع مسؤولية الإغفال هذه على كاتبي النصوص وحدهم بل وتقع في المقام الأول على المخططين التربويين/اللغويين الذي وضعوا مواصفات المنهاج وتفاصيله. هذا إن وجدت فئة كلفت بتوصيف المستويات اللغوية. على الأرجح أن منهاج اللغة العربية الجديد(وضع في التسعينيات) لا يستند إلى خلفية أو دراسة لغوية أو حتى إلى دليل لغوي مبسط يرسم المراحل ويوصف الطريقة الملائمة لتدريس اللغة العربية. دليل مثل هذا و ضرورة لازمة لأي "منهاج" تعليمي ليسترشد به واضعو النصوص من جهة، ومدرسو اللغة في آن معا.
في تقييمي كتب القراءة العربية المعتمدة في لبنان، تبين أن النصوص لجهة اللغة، كتبت بصورة استنسابية وحتى عشوائياً؛ وأنها لا تستند إلى خلفية تحدد مواصفات كل مرحلة من المراحل الدراسية لتتدرج من الأبسط إلى الأقل بساطة ومن الأيسر إلى الأكثر تطوراً. على سبيل المثال أذكر نصاً مقدماً لدارسين لهم من العمر 8 سنوات، يصف رحلة التلامذة إلى الثلج وكيف "صاروا يتراشقون بالكرات الثلجية ويتضاحكون وجاء المدرس لينبههم إلى خطورة مثل ما يقومون به "الخ. لو كان كان معد النص على دراية بالمراحل اللغوية/العمرية لقال مثالاً: "في الرحلة إلى الثلج... رشق فادي سمر بكرة ثلج. وسمر ردت عليه. رشقت فادي بكرة ثلج أيضاً".
الأدلة الإرشادية ضرورية عموماً لإعداد كتب تعليم جميع لغات العالم، ولا سيما بالنسبة لكتب تعليم لعربية. لماذا؟ لأن خصائص اللغة العربية تختلف تماماً عن خصائص الإنكليزية(مثلاً) لجهة مواصفاتها الكتابية والصرفية. وبالتالي تتطلب نهجاً ومواصفات مغايرة في إعداد النصوص؛ كما وتتطلب طريقة مغيرة في التعليم. في تقييمي صعوبات التعلم تبين لي أن "الطريقة الكلية" التي طارت شهرتها في الآفاق منذ منتصف الخمسينات هي ممتازة لتعليم الانكليزية. على أنها مضرة أشد الضرر في تعليم العربية. من المؤسف أنها سادت طويلاً وما تزال في كثير من بلداننا، حتى تخرج من فصولها جيل من الدارسين شديد الضعف في قراءة لغته عاجزاً عن كتابتها بصورة تقرب من الصواب. كما وأنها أربكت المدرسين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن إيجاد الحلول. من خلال عملي في مصر مثلا، يمكنني التأكيد على أن "الطريقة الكلية" في التعليم هي من مسببات "التسرب" المدرسي الذي يحكى عنه في المناطق المكتظة ويحكى عن "غموض" أسبابه. من "ثمرات" الطريقة الكلية على سبيل المثال، الأخطاء اللغوية الجسيمة التي بدأت تنتشر. نلاحظ أن جامعيين لا يميزون في الكتابة بين الياء في آخر الكلمة وبين الألف المقصورة. وحلاً للمشكلة يضعون نقاطاً أينما كان حتى يغدو حرف الجر "على" هو ذاته "علي". وقد لا يميزون بين التاء المفتوحة وتلك المربوطة.
أو بين هذه وهاء الضمير المتصل (للمذكر). كلها في الطريقة الكلية منمنات توضع فوقها منمنمات أخرى هي حركات التشكيل والتنقيط. ينظر إليها الدارس وكأنها عناصر زينة عليه حفظ أشكالها دون الوعي بالفروقات بينها أو الوعي بوظائفها. ومن "ثمرات" "الطريقة الكلية" أن الدارسين لا يميزون بين الأصوات،(الحركات)الطويلة منها والقصيرة فقد يمدون حركات التشكيل أو يقصفون عمر حركات المد (الألف، الواو الياء)لا لغباء منهم بل لسوء النصوص وسوء الطريقة التي دُرسوا بها. فالطريقة الكلية تميّع الجزئيات التي هي ذات شأن حاسم في اللغة العربية. بعض هذه الجزئيات كتابية مثل تنقيط الحروف؛ وبعضها بنائية مثل حركات التشكيل القصيرة والطويلة؛ وبعضها صرفية مثل ميزة الوصل حيث تتصل بعض الضمائر بالأفعال (مثل درسن وذهبن) وتتصل بالأسماء (هذه كتبي، كتبها، كتبهن) كما وتتصل الأسماء ببعض حروف الجر (آخذ باليد وألعب بالكرة) الخ.
في معرض الحديث عن أزمة ثقافية لا يمكن الإسهاب في حيثيات اللغة. لذا أشير إلى بحث لغوي بعنوان "إنهم يدرسون اللغة العربية بالطريقة الانكليزية" كنت نشرته في صحيفة الحياة اللندنية عام(1999).
مهما قيل في مسببات القطيعة بين الأجيال الجديدة ولغتهم المكتوبة فإن مسؤوليتها الأساسية تقع على أولى الانطباعات التي تلقاها الصغار، أي على مناهج التعليم. الوزارة ما تزال "ملتزمة" بإرثها القديم. لم يخطر لمسؤوليها أن يشاركوا كتاباً تخصصوا في أدب الصغار أو لغويين لهم خبراء في ذلك أو مبدعين موهوبين. ألا يستأهل المنهاج الوطني إقامة ورشة وطنية تستقطب المواهب من خارج فئات "الموظفين"؟ جل ما يفعله "خبراء" الوزارة منذ ما يربو على نصف قرن، "تطعيم" الكتب بنصوص كتبها الأوائل وأدباء المهجر في مطلع القرن العشرين. نصوص على قيمتها الأدبية في المطلق لا تلائم الدارسين لا لجهة موضوعاتها، أو أسلوبها أو لغتها.من ناحية أخرى لا يفرد البرنامج الدراسي مساحة للمطالعة من خارج الكتب المعتمدة. نادرة هي الأنشطة القرائية التي "تخرج عن النص" وفي غالبيتها تأتي نتيجة اجتهاد خاص من إدارة المدرسة أو من المدرسين أنفسهم لا نتيجة رؤية أو خطة مركزية تبنتها الوزارة وأنتجب أو ساهمت في إنتاج موادها. من"الانطباعات الأولى" التي تنفّر الصغار من لغتهم المكتوبة مادة "القواعد". بالأحرى طريقة تدريسها. طريقة منذ كتاب "الكامل للمبرّد" في العصر العباسي، لم تتقدم سوى خطوات ضئيلة في درب التطوير والتبسيط. ما زال التلامذة (في التاسعة من عمرهم) يحفظون صماً عبارات هجينة على التآلف مثل "الجار والمجرور متعلقان بخبر محذوف تقديره..." يا لتلك العبارة التي أجفلت ملايين الصغار! حتى لكأن "القواعد" عصية على التبسيط. ليست عصية، "أولي الأمر" هم الأعصياء! لا أحد يجرؤ على التفكير المغاير. أو الاعتراض وإن جرؤ فلا يبادر وإن بادر وقف آخرون في وجهه فخاف من العزلة وقطع الرزق، وسكت.
ما الدافع والحالة هذه أن يذهب صغارنا إلى معرض الكتاب العربي؟! ما الذي سيجعلهم يقبلون على شراء ما سيعيد إليهم ذكرى الإحباط اليومي الذي عانوا منه سنوات في تعلم لغتهم "العويصة"؟ ماذا عن مسؤولية دور النشر؟ ما ينطبق على كتب وزارة التربية ينطبق بصورة متفاوتة على كتب ومنشورات كثيرة أعدت للصغار. هنا أتذكر عدداً من سلسلات الكتب الأجنبية التي نجحت في هذا المضمار وتدعونا للتمثل بها، كسلسلة "أكسفورد" و"لونغمان" و"هاينمن"أو مثيلات لها. كتب أعدت لمساعدة القراء على بناء وتطوير لغتهم الانكليزية. وقد رُسمت نصوصها لغوياً تبعاً لمراحل مدروسة تتدرج من الأبسط نحو الأقل بساطة. قصص من الأدب العالمي أو نصوص ممتعة تمسك بيد القارئ فيتقدم بواسطتها وترتقي به اطرادا حتى بلوغ المستوى الأساسي الذي كتبت به هذه الروائع. أما في منشوراتنا، فغالبية الكتب الموجهة للصغار أعدت بصورة استنسابية. القليل منها أصاب والكثير لم يصب. وجميعها لا يوحي بأن تعاوناً قد تم بين خبراء لغويين وبين دار النشر ومعدي النصوص. ولطالما وقعت على كتب صادرة عن أهم الدور أو الهيئات الدولية المعنية بثقافة الأطفال...كتب ذات ورق ثمين لماع إنما نصوصها ومضامينها لم تنل أي نصيب من الميزانية التي صرفت عليها.
أين موقع سائر الأطراف من أزمة الثقافة، مثل وزارتي الإعلام والثقافة؟ بالنسبة للأخيرة تكفينا نظرة على ميزانيتها قبل الولوج في تقييم أدائها وأداء كوادرها، لتتضح الصورة. هناك حقبة يتيمة انتعشت فيها أنشطة وزارة الثقافة، حين كان لبنان عاصمة "الفرنكوفونية" ذاك العام، فأغدقت هذه عليه من نعمها وتيسر لها وزير لامع حقق ما لم يتمكن غيره من الوزراء تحقيقه على الرغم من أهمية هؤلاء. أهمية يشهد عليها تاريخهم وثراء ثقافتهم ومناقبيتهم وقوة حماستهم لتعزيز الثقافة.
أما وزراة الإعلام فهي أيضا لا جناح عليها. لا أظن أن لبنانياً ذكياً يفكر بإلقاء المسؤولية على جهة لا حول لها ولا قوة. لا رؤية ولا خطة ولا ترسيم "حدود"، بين ما هو جائز لجهة الثقافة والترفيه وبين ما لا يجوز. في وضعنا الراهن لن يخطر لأي باحث أن لتلك الوزارة سلطة قانونية أو فعلية أو هيبة من الإرث القديم على ما يدور في "سيرك الإعلام"! وطبعا لا سلطة على من يدير هذا السيرك أو يستفيد منه. وما على الباحث سوىأان يلاحظ، يتساءل ويستنتج. يلاحظ مثلاً أن الكل يسرح ويمرح على هواه! باسم الحرية طبعاً! يتساءل: في مهرجان "الحرية" هذه ما المساحات التي خصصت أو تركت للثقافة؟ للكتب والكتاب؟ أو للترفيه الذكي؟ ما حجم هذه مقارنة بما يقع تحت خانة "الفن" و"الفنانين". لا أقصد الفن الجميل بل التافه و الرخيص؟ ولا الفنانين الكبار بل "المرفِهين" والمهرجين؟ ما المبالغ التي تصرف للترويج لهؤلاء وتلك التي تصرف للثقافة والكتاب؟ حتى الصحافة الجادة صارت تفرد مساحات للفن الهابط بحجة التهكم والتهجم فتساهم، عن قصد أو غير قصد في الترويج له!
كم هو سهل الحديث عن "الإعلام". فهو يقدم نفسه بنفسه: المال يتدفق عليه بغزارة لم يشهد لها مثيل و"فنون" استخدامه تضاهي فنون السحرة و"لاعبي الكشاتبين". في كواليسه ومطابخه تعد التمثيليات وتخرج نتاجها على الشاشات. الأكاذيب فيه تشبه الحقائق. وأسلوبه المفضل الإثارة. كل أنماط الإثارة: في اسلوب تقديم الأخبار، في الحديث عن السياسة والاجتماعيات والفن والمحرمات، الكل يتبارى في ابتكار أساليب الإثارة. الإثارة احتلت الصدارة ودور الوزارة. لا عجب! فالمال لم يأتِ كرمى لعيون الأجيال الجديدة وكرمى لبناء ثقافتهم، بل خدمة للسوق. للمعلنين عن "بضاعته"! كلها تقتحم إما للاستقطاب أو الكسب. فلم لا تعتمد أقصر الوسائل وأسهلها؟ الإثارة. لم تعتمد ما هو غير مثير؟ هذا لا يستقطب ولا يجلب الإعلانات. لا جدوى منه. برامج المرئي، نادرها يبغي الثقافة والترفيه الجميل الذكي وقليلها جدي دسم إنما يغلب عليه السياسي وبقية منوعاتها إما فاقدة الجاذبية أو تفاهات وحركات تهريج أو حتى بذاءات تمجها النفس! على هذا النمط المريض ينشأ صغارنا ويدمنون! في هذه الهوجاء هل يبقى للثقافة من مكان؟! وهل من مكان لمعرض كتبها وكتابها؟! الثقافة في وقتنا الحالي لم تعد "قيمة". فالقيمة للإثارة والمعلنين. والإعلام بات خاضعاً لابتزاز "الإعلان". إعلام فقد في الغالب أدنى شروط الحرية، يسترزق منه إعلاميون مثقفون فقد كثير منهم قيمتهم وكثيرون فقدوا قيمهم.
قيل: " لمعرض الكتاب هذه المرة عنوان خفي يذكر بالمسرحي"بيرادنللو" "ناشرون وكتاب يبحثون عن قراء" وقيل إن منظميه هم المسؤولون. فقد شاخوا ولم يتجددوا وما عادوا قادرين على الابتكار. أو أنهم احتكروا ونبذوا مشاركة "الآخرين". كل هذا صحيح إنهم بالتأكيد لكذلك ولكن...يبقى هؤلاء الحلقة الأضعف في تحمل مسؤولية انهيار الثقافة العربية في لبنان. وما فشل معرض الكتاب العربي الأخير في بيروت سوى إحدى "تجليات" هذا الانهيار.
ختاماً...
لدينا من القدرات والمهارات والمواهب والإرث الثقافي والتعليمي على الرغم من مشكلاته...لدينا ما من شأنه أن ينهض بأكثر البلاد بلادة. ويعالج اشد المشكلات عصياناً ولكن...لنهوض مثل هذا شروط وظروف:
ماذا لو تُوظف أموال "المعلنين" "أو بعضها" في الثقافة؟ وتوظف مواهب اللبنانيين كما في السابق، في إبداعها ونشرها؟ وماذا لو تستلم الوزارات مسؤولياتها، وتوفي حق ناسها عليها؟ وماذا لو تعيد دور النشر النظر بقيمة منشوراتها؟ ماذا لو يفتح القائمون على المعرض الأبواب أمام "الآخرين" من مبدعين ومبعدين؟
لو يحدث هذا لتغدو الثقافة بخير وتجلياتها من كتب ومعارض بألف خير أيضاً!